حين فُرض حظر التجول في الانتفاضة الثانية، كنا نجتمع تحت درج العمارة، وهناك كانت تجري كل طقوس الحياة المختلفة: نقيم الصلاة وندرس المواد التعليمية ونلعب الشطرنج والورق ونختلف حول ملكيّة البلاطات القليلة التي نتواجد فوقها تحت الدرج. لم يفكر أحد منا من قبل بملكية هذه الدرجات ومن الواضح أن فيض المكان سابقًا كان يجعلنا نزهد بها، ولكن الآن بعد أن تحوّلت للمكان الوحيد الذي يحوي حركتنا أصبحت موضوع خلاف، من يومها وأنا أتذكر باستمرار كيف أن المكان الضيق قد خلق نقاشاته الضيّقة، في حين تقتضي وقائع المكان الضيّقة النظر هناك لماخلف الأفق.
تخطر بذهني نقاشات حظر التجول تلك، كلما سمعت نقاشاً فلسطينيّاً حول "حلّ" الدولة أو الدولتين وأيهما أفضل، يبدو الفلسطيني اليوم ممنوعاً من التجوّل خارج ما هو متاح، خارج اللغة القانونيّة التي بإمكان العالم فهمها، وخارج الفعل المحددة حدوده سلفاً.
إن كان بإمكاننا الاستعانة بنموذج "نقاشات منع التجول" لفهم تبدلات العمل السياسي وتحت أي ظرف توضع التصورات التي تقدم على أنها خيار، فيما نحن نعرف جيداً أنه ليس خيار ذلك الذي يمنع سلفاً التفكير في غيره، إنّ هذه التصورات تبنى في وقت هزيمة، وهذا ما يجعل الأمر بحاجة لحساسيّة مبالغ فيها تجاه اللغة والممارسة، حيث أنّ التراجع لا يعدم التأويلات المناسبة التي تعرضه كتقدم خلّاق.
بهذا التقديم يمكننا أن نتساءل: أيّ معنى لاستجلاب نموذج الأبارتهايد (جنوب إفريقيا) إلى السياق الفلسطيني؟
تشذيب النموذج
إن استجلاب النموذج ليس عملية بريئة، بل هي عملية سياسيّة بحتة، تفترض سياسة استجلاب النموذج أن نختار نموذجاً ضمن نماذج عدّة، ومن ثم يجرى نزع النموذج المختار من سياقه التاريخي وتفاعلاته الداخليّة والاحتفاء بما هو مسموح الاحتفاء به فقط، هل هذه العملية تسمى التعلم من تجارب الشعوب؟! أم أنّ لها اسم آخر هو تحويل تجارب بعينها لنموذج تأديبي لشعب مازال في طور التحرر.
لا يجري التطرق للتفاعلات الداخليّة التي عاشتها تجربة المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي فاوض الحكومة وحشد باتجاه العصيان المدني ولجأ للكفاح المسلح وأشرف مانديلا بنفسه على هذه المهمة بما عرف وقتها بـ"الخطة ميم"، وبموجبها تم تحويل فروع الحزب إلى خلايا للمقاومة السّريّة حيث تلقوا تدريبهم في الجزائر، وقاموا بأعمال هجوميّة ضدّ مؤسسات حكوميّة واقتصاديّة، وقتها نام مانديلا على البارود مطمئنًا وهو يردد:"إن الحق والديناميت معنا".
يُنزع مانديلا من كل هذه التفاعلات ويتم اقتطاع النضال المدنيّ ضدّ العنصريّة، ومن ثمّ القفز بشكل ميكانيكيّ نحو نجاح التجربة في إلغاء التمييز العنصري وانحياز المجتمع الدولي لمطالبهم العادلة، دون الانتباه أيضاً للسياقات التاريخية التي جعلت دولة جنوب إفريقيا ليست ذات أهمية بالنسبة للعالم الاستعماري.
إن الرواية التي تقول إن النضال ضدّ العنصريّة قد انتصر لأن المجتمع الدوليّ قد وقف لصالحها هي رواية تريد أن تصدق رواية المجتمع الدولي نفسه، إذ هي تنزع من السياق فقدان العالم حماسته الكافية لدولة جنوب إفريقيا التي كانت تقع على خط التجارة الدولية، على الطريق نحو المستعمرات الآسيويّة، ولكن بعد شقّ قناة السويس، لم يعد لها ذات الأهميّة، ولذلك يظن المتحمسون في السياق الفلسطيني أنّ ما نحتاجه هو إقناع العالم بعدالة قضيتنا. لا يعاني العالم من نقصان المعرفة حولنا، بل يعاني من نقصان الحماس لجعل العدالة هي معيار معاملتنا، وهذا الحماس بالطبع مدار المصلحة والتي هي محرك السياسة الأول، كما ووفق هذا التصور يجري النظر هنا لإسرائيل كدولة استعمار مستقلة عن حركة الاستعمار الغربية الأوسع، وكأنّ وجودها بالمنطقة لا علاقة له بالقوى الاستعماريّة الكبرى.
وبعد نجاح النموذج الجنوب إفريقي في القضاء على التمييز العنصري، لم تجر متابعة الآثار الايجابية والسلبية لما بعد نجاح النموذج، أي هل هناك ثمة آثار سلبيّة يخلفها نموذج لم يقم قطيعة راديكالية مع الواقع الذي قاومه؟! مازال أحفاد المستوطنين البيض، وأبناء النظام القديم نفسه يسيطرون على الاقتصاد وعلى جزء أساسي من الإعلام أو الشركات المتحكمة به، وهنالك مشكلة أرض ومسكن وفقر مزمنة عند غير البيض. والدولة مضطرة للالتزام بسداد الديون وبكافة الاتفاقيات الدولية التي أبرمها النظام القديم بما فيها مع إسرائيل، وزاد على ذلك نشوء طبقة اقتصادية بين السود تنافس البيض في السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وآخر آثار هذه السياسات كان إضراب عمال منجم "ماركينا" الذي فضّ بالقوة مخلفاً مقتل سبعة وثلاثين عاملاً. وهذا ما كان يحاول قوله "خويزي كادالي" أحد القيادات الجنوب إفريقية في وصفه للقيادة السوداء: "يخبر هؤلاء القادة الطبقة العاملة بأننا جميعا في نفس الخندق سويّة مع الرأسماليّة، وأن علينا أن نتصرف وطنياً من أجل تقوية إفريقيا الجنوبية معاً. وفي هذه الأثناء يقوم الرأسماليون بالتخندق باطّراد وإبعاد ملايين العمال. لقد بلغت البطالة ٤٦ % وانتشر الفقر والجوع كالحريق في الغابات، ومع ذلك يخبرون الطبقة العاملة أن الحل الوحيد هو الصبر في انتظار زمان أفضل، وأن عليها أن تكون أكثر وطنيّة".
ليس الهدف هنا تقييم التجربة الجنوب إفريقية، بقدر التنبه إلى كيف يتم تشذيب النموذج ولا تجري عملية دراسته في محمل تفاعلاته الداخليّة والتاريخيّة.
نقض الأبارتهايد في السياق الفلسطيني
هناك هاجس يتملك الفلسطينيين حول ضرورة إيجاد نماذج تشبه نضالهم، وغالباً لا يجري ذلك في سياق الاستفادة لتطوير نموذج خاص في التحرر، ولكن يجري في سياق إدخال تجربتهم ضمن لغة عالمية معترف بها، وبذلك تفقد الحالة الفلسطينية كل خصوصيّتها، وحرمانها سلفاً من القدرة على التفكير بإمكانيات أخرى لسير التاريخ، وفي سياق ادخال التجربة الفلسطينية داخل نموذج الأبارتهايد، يجري اختزال المستعمر إلى مكونه العنصري وكأن العنصرية هنا هي من أوجدته فيما هي كانت لاحقاً له، لقد كان نضال السود في جنوب إفريقيا بدون رواية تاريخية ذات بعد وطني أو ديني، بمعنى لقد اقتصر تعريف الصراع على تمييز يوقعه البيض على السود، فيما في السياق الفلسطيني هناك خلاف جوهري في الرواية وتعريف صفري للصراع لا يقبل فيه المكان القسمة على اثنين، لقد احتاج فلسطينيو الأرض المحتلة عام 1948 (ووصل الضفة الغربية مؤخراً) هذا النموذج "كتكتيك" إحراج لـ"دولة إسرائيل" لكن التكتيك سرعان ما تحوّل لإستراتيجيا والاستراتيجيا بحكم طبيعتها أصبغت على الثقافة الوطنية تأثيراتها، فلم يعد الأمر مجرد براغماتيّة تستغل بذكاء ما هو متاح لتحقيق بعض الانجازات، بل صار النموذج إطاراً للتحرك السياسي وتصوّراً لإنهاء الصراع.
يستند الخطاب هنا على نضال ذي طبيعة حقوقيّة، فأنت تناضل لتحسين شروط وجودك تحت الاحتلال، ترى في ممارسته الدولاتيّة تمييزاً ضدّك وبصفتك مواطناً تحته نظامه تطلب أن يعاملك كمواطن متساوٍ مع الإسرائليين المساوة مع مستعمرك هي نهاية سقف نضالك، فيصبح الإسرائيلي معيار حقك في النضال فمثله تريد أن تكون، ليختفي بذلك تعريف المعركة الحقيقي، بوصفها معركة خلاف على وجود الاحتلال وليس خلافاً على طبيعة الاحتلال.
افتراض أن النضال هو ضد عنصريّة الدولة وليس ضد وجودها، جعل الفلسطينيين يطلقون على الجدار الذي صمّم للسيطرة عليهم أمنياً بجدار الفصل العنصري، وكأنّ مبرر وجوده هو فصل بين مواطنين من درجات مختلفة، لقد بني الجدار ليحدّ من العلميّات الاستشهادية، وليس لكي يفاضل بين "محمد" و"موشي"، وهذا ما يفعله المؤرخ الإسرائيلي "ايلان بابيه" حين يطلق اسم "التطهير العرقي" على عمليّات الإبادة التي شنتها الحركة الصهوينة، فيما هو نفسه يذكر في تفاصيل الخطة "دالت" أن التصفية كانت تتعلق بأولئك الذين شاركوا بالنضال ضد الاستعمار الإنجليزي بشكل مباشر أو غير مباشر، وهكذا كان هاجس الأمن والمواجهة هو الهاجس الأكبر لدولة استعمار كولونيالي، كل هذا يتم تنحيته وإبراز أن المشكلة بين عرقين متنازعين.
ونتساءل هل فصل الفلسطينين عن أنفسهم هو بدافع عنصري؟ بالطبع ليس الغرض هو نفي الطابع العنصري للاستعمار الإسرائيلي، ولكنّ الهدف هو القول أن طبيعته العنصرية ليست هي محل الخلاف بل وجوده، وأنها ترتيب لاحق لوجوده.
لا يريد هذا المقال أن يدخل في نقاشات مع ممارسات بعينها، بل مع الثقافة السياسيّة التي اشتق منها الممارسة، وما يريد قوله هو ما قاله حافظ ياسين من قبل: "المسألة هي أن لا يتحول وعي الهزيمة لهزيمة وعي" المسألة أن لايتحوّل وجودنا تحت الدرج لوجودنا من أجله، وتغيب نقاشات التجوّل وممارساته، حيث سقف الدرج يؤطر تحته كل شيء.